لم يعد أمام الدول العربية من خيار آخر سوى القيام بإعادة تقييم شاملة لسياستها تجاه ما يسمى «عملية التسوية السلمية للصراع العربى الإسرائيلى». فمن الواضح أن هذه «الدول» تعاملت مع هذا «الصراع» ومنذ انطلاق هذه «العملية» من منطلق أنه قابل لحل دائم وعادل، وأن الأطراف الدولية، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، باتت مستعدة للعب دور إيجابى لمساعدة أطرافه على التوصل إلى مثل هذا الحل، وتقديم الضمانات اللازمة لتثبيته على الأرض.
وقد سبق أن أشرنا مرارا وتكرارا إلى أنه ثبت بالدليل القاطع خطأ هذه الرؤية لسبب بسيط، هو أن إسرائيل تتعامل فى صراعها مع العرب من منطلق أنه قابل «للإدارة» وليس بالضرورة «للحل».
هناك اختلاف جذرى بين منهج إدارة الصراع ومنهج حله. فالطرف الذى يقوم بعملية «إدارة» للصراع لا يتخلى قيد أنملة عن أى من أهدافه فى الصراع، ويحاول طوال الوقت تسجيل النقاط واستثمار تراكمها لإضعاف الخصم إلى أن يتمكن من فرض شروطه النهائية. ومعنى ذلك أن التسوية بالنسبة لطرف «يدير» الصراع لا تتحقق إلا عندما ينجح فى إلحاق هزيمة كاملة بخصمه ويسمح لنفسه باستخدام كل الوسائل التى تمكنه من تحقيق أهدافه كاملة.
أما الطرف الذى يسعى إلى «حل» الصراع فيكون مستعدا وجاهزا دوما لتقديم «تنازلات» تسمح بالتوصل إلى «تسوية» تحقق له جزءاً من أهدافه وليس كلها. ومن الطبيعى أن تتسم مسيرة أى «عملية سياسية لتسوية الصراع» بالخلل والارتباك الشديد حين يكون أحد طرفيها منخرطا فى إدارة صراع يسعى الطرف الآخر لحله.
ولأن العرب «المتلهفين» على حل الصراع كانوا هم البادئين دوما بتقديم «تنازلات» لا يشترطون فى مقابلها تنازلات موازية ومتكافئة من الجانب الآخر، فقد كان من الطبيعى أن تتعامل إسرائيل مع كل تنازل باعتباره دليل ضعف يغريها بالتشدد للحصول على تنازلات أخرى. وقد سار الحال على هذا المنوال إلى أن وصلنا إلى المأزق الراهن.
فى سياق الخلل القائم بين منهج «إدارة الصراع»، المستخدم من جانب أحد طرفيه، ومنهج «الحل» المستخدم من جانب الطرف الآخر، أصبح من الصعب على أى طرف ثالث، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، لعب دور «الوسيط النزيه»، لأنه كان بوسع الطرف الأقوى توظيفه دوما لصالحه وفرض عليه منطقه فى إدارة الصراع، ولأنه لم يكن لدى الطرف العربى الباحث عن «حل» للصراع من خيارات أخرى سوى الجلوس على طاولة المفاوضات فلم يكن أمامه من بديل آخر سوى القبول بدور الوسيط، مهما ثبتت عدم نزاهته.
فى سياق كهذا، لم يعد أمام الطرف العربى سوى أحد خيارين: فإما القبول بالشروط الإسرائيلية للتسوية، وإما الانتقال من منهج «حل الصراع» إلى منهج «إدارة الصراع»، ولأنه يستحيل على النظم العربية الحاكمة قبول الشروط الإسرائيلية للتسوية فلم يعد أمامها سوى الانتقال إلى منهج إدارة الصراع؟ لكن هل لايزال هذا ممكناً؟.. أظن ذلك وهذا ما سنحاول توضيحه غدا بإذن الله.